الأحد، 20 ماي 2012

خطأ طبي




أحست بيد دافئة تحضن أصابعها الباردة , و بنفس متقطع يلفح وجهها الشاحب. سمعت خطوات تقترب و أخرى تبتعد, تسللت إلى أنفها روائح مختلطة من مزيج الأدوية و الأزهار.
حاولت أن تفتح عينيها لكنها فشلت ,أحست بخدر في جميع أنحاء جسدها النحيل و كأنها معلقة ما بين السماء و الأرض بخيوط واهنة تؤرجحها بانتظام تارة إلى الأعلى و تارة إلى الأسفل. 
أسندت رأسها المثقل بالهموم على الوسادة البيضاء و خرجت من حلقها غصة ألم مكبوتة و هي تتذوق طعم الدموع المالحة تداعب شفتيها الذابلتين, قبل أن تطلق العنان لذاكرتها لاسترجاع شريط ممل يزورها باستمرار و أحداث تأبى الإنسحاب أو تعلن يوما الغياب.
رأت تلك الصبية ذات الجمال الهادئ والروح المرحة و هي تجوب الشوارع مع خطيبها خالد بعد دوام العمل يتسابقان مع الحياة و ينفضان عنهما ثقل أحزانها تتبعهما أحلامهما و أمانيهما.
تذكرت نظراته إليها عندما أخبرها الطبيب بإصابتها بورم خبيث يستدعي استئصال ثديها الأيمن رمز أنوثتها و اكتمال جمالها ,حيث رجعا ذلك المساء صامتين لأول مرة منذ سنتين , و يديهما اللتين لم تفترقا يوما ابتعدتا عن بعضهما و كأنهما نسيتا طعم العناق و الوفاء . 
تذكرت زيارة صديقتها لها في المنزل بعد استقالتها من العمل و انعزالها عن العالم الخارجي لتطمئن عليها ,و تسلمها باقة زهر و رسالة اعتذار من خالد.
تذكرت نظرات العطف و نظرات الشماتة  
 نظرات و عبرات .........من وجوه مألوفة و أخرى عابرة.
و في خضم كل هذا تذكرت والدتها بملامحها الطيبة , رفيقتها في معركتها مع المرض اللعين , تذكرتها وهي تطبع على جبينها قبلة تحمل كل معاني الحنان , و تتمتم بآيات بينات من القرآن قبل أن تدخل غرفة العمليات وحدها مع ألامها و جراحها.
فجأة سمعت حركة بالقرب منها أيقظتها من براثن الماضي الأليم.
أحست بقشعريرة تعتريها و كأن المجهول ينفخ عليها من برد الزمان ما يكفيها, قبل أن تستسلم للنوم لعلها تجد في الأحلام ما بخلت عليها فيه الأيام.
فتحت عينيها ببطء لتجد الظلام قد انسل بلمسته الكئيبة على الغرفة الصغيرة.
جالت ببصرها تخترق الضباب لتستكشف المكان و كأنها تحاول أن تثبت لنفسها أنها لا تزال على قيد الحياة. لمحت طيفا يراقبها بالقرب من النافذة المغلقة , اقترب الطبيب من سريرها  و أمسك بيدها يجس النبض المتسارع داخل صدرها المتآكل ; نظر في عينيها طويلا قبل أن يتمتم قائلا:
_الحمد لله على سلامتك أنسة زينب لقد مرت العملية بنجاح و لله الحمد.
صمت ثقيل خيم على المكان و الأشخاص قبل أن يستطرد متابعا :
_لكن تدعوني الأمانة المهنية أن أخبرك أمرا.
تشبتت زينب بيد الدكتور كما الغريق يمسك قشة النجاة ,أطلقت صرخة مكتومة . قفزإلى عقلها المشوش ألف سؤال و سؤال ,أحنت رأسها المتعب لتمنع دمعة يابسة شاردة من الظهور, و همست و هي تحاول أن  تستجمع شجاعتها المبعثرة و إيمانها العميق :
_كم بقي لي من العمر أعيشه ? أخبرني دكتور.
أدار الرجل ظهره لها و كأنه لم يلتقط أهاتها المتصلبة داخلها و قال بصوت مبحوح لكنه مسموع :
_لقد اكتشفنا  اليوم خطأ في التحاليل الطبية التي أجريناها لك بالأمس ,أنت لم تكوني يوما مصابة بمرض السرطان , سيدتي إدارة المستشفى تقدم لك كامل اعتذارها ; نأسف على الإزعاج , إنه مجرد خطأ طبي .
و غادر الغرفة المظلمة تاركا زينب تواجه معركتها الجديدة
لكن هذه المرة مع من ...........?



هناك تعليقان (2):

  1. بسم الله وبعد
    طرح طيب وكلمات جميلة وسرد رائع جعلني أعيش لحظات هذا المشهد وكأنني احد شخصياته، فما أسهل الاعتذار بعد خطأ لا يغتفر وهناك الكثير مثل هذا

    تحياتي واحترامي وتقديري لك أختي في الله
    www.alrantisi.net.tc

    ردحذف
  2. ما أسهل الإعتذار حين يكون الخطأ أكبر من مجرد حرف على الشفاه
    أصبت صديقي
    أسعدتني كلماتك و دمت طيبا

    ردحذف